فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.سورة الإسراء:

.تفسير الآية رقم (1):

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
{سبحان الذي أسرى بِعَبْدِهِ} معنى سبحان تنزه، وهو مصدر غير منصرف، وأسرى وسرى لغتان، وهو فعل غير متعدّ، واختار ابن عطية أن يكون أسرى هنا متعدياً أي أسرى الملائكة بعبده وهو بعيد، والعبد هنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما وصفه بالعبودية تشريفاً له وتقريباً {لَيْلاً} إن قيل: ما فائدة قوله ليلاً مع أن السرى هو بالليل؟ فالجواب: أنه أراد بقوله: ليلاً بلفظ التنكير تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في الأعجوبة {مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} يعني بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة، وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل» وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيته، فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام؛ وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء، وسُمِّيَ الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد، ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد؛ فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة، واختلف العلماء في كيفية الإسراء، فقال الجمهور: كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، وقال قوم: كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حق، فحجة الجمهور؛ أنه لو كان مناماً لم تنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يكذب به الكفار، ألا ترى قول أم هانئ له: لا تخبر بذلك فيكذبك قومك، وحجة من قال: أن الإسراء كان مناماً قوله تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، وإنما يقال الرؤيا في المنام، ويقال فيما يرى بالعين رؤية، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا بين النائم واليقظان وذكر الإسراء، وقال في آخر الحديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام، وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال: الإسراء كان مرتين: أحدهما بالجسد والآخر بالروح، وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس، وهو الذي أنكرته قريش، وأن الإسراء بالروح كان إلى السموات السبع، ليلة فرضت الصلوات الخمس، ولقي الأنبياء في السموات {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} صفة للمسجد الأقصى، والبركة حوله بوجهين: أحدهما: ما كان فيه وفي نواحيه من الأنبياء، والآخر: كثرة ما فيه من الزروع والأشجار التي خص الله بها الشام {لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنآ} أي لنري محمداً صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من العجائب، فإنه رأى السموات والجنة والنار وسدرة المنتهى والملائكة والأنبياء، وكلمه الله تعالى حسبما ورد في أحاديث الإسراء، وهي في مصنفات الحديث فأغنى ذلك عن ذكرها هنا.

.تفسير الآيات (2- 3):

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
{وجعلناه هُدًى} يحتمل أن يعود الضمير على الكتاب أو على موسى {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} أي رباً تكلون إليه أمركم، وأن يحتمل أن تكون مصدرية أو مفسرة {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نداء، وفي ندائهم بذلك تلطف وتذكير بنعمة الله، وقيل: هي مفعول تتخذوا، ويتعين معنى ذلك على قراءة من قرأ يتخذ بالياء ويعني بمن حملنا مع نوح أولاده الثلاثة وهم سام وحام ويافث، ونساؤهم، ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي كثير الشكر كان يحمد الله على كل حال، وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوح.

.تفسير الآيات (4- 6):

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} قيل: إن قضينا هنا بمعنى علمنا وأخبرنا، كما قيل في {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66]، والكتاب على هذا التوراة، وقيل: قضينا إليه من القضاء والقدر، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ، الذي كتبت فيه مقادير الأشياء، وإلى بمعنى على {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} هذه الجملة بيان للمقضي، وهي في وضع جواب قضينا إذا كان من القضاء والقدر، لأنه جرى مجرى القسم، وإن كان بمعنى أعلمنا فهو جواب قسم محذوف، تقديره: والله لتفسدن، والجملة في موضع معمول قضينا، والمرتان المشار إليهما؛ إحداهما: قتل زكريا والأخرى قتل يحيىعليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} من العلو وهو الكبر والتخيل {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أولاهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} معناه أنهم إذا أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم عباداً له لينتقم منهم على أيديهم، واختلف في هؤلاء العبيد فقيل: جالوت وجنوده وقتل بختنصر ملك بابل {فَجَاسُواْ خلال الديار} أي ترددوا بينهما بالفساد، وروي أنهم قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة. وخربوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل، واستنقاذ أسراهم، وقبل بختنصر، وقيل: قتل داود لجالوت {أَكْثَرَ نَفِيراً} أي أكثر عدداً، وهو مصدر من قولك: نفر الرجل إذا خرج مسرعاً، أو جمع نفر.

.تفسير الآية رقم (7):

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أحسنتم الأول بمعنى الحسنات، والثاني: بمعنى الإحسان كقولك: أحسنت إلى فلان، ففيه تجنيس، واللام فيه بمعنى إلى، وكذلك اللام في قوله: وإن سألتم فلها {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} يعني إذا أفسدوا في المرة الأخيرة، بعث الله عليهم أولئك العباد للانتقام منهم، فالآخرة صفة للمرة، ومعنى يسوؤا: يجعلونها تظهر فيها آثار الشر والسوء كقوله: سيئت وجوه الذين كفروا، واللام لام كي وهي تتعلق ببعثنا المحذوف لدلالة الأول عليه، وقيل: هي لام الأمر {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد} يعني بيت المقدس {وَلِيُتَبِّرُواْ} من التبار، وهو الإهلاك وشدّة الفساد {مَا عَلَوْاْ} ما مفعول ليتبروا: أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد، وقيل إن ما ظرفية أي يفسدوا مدة علوهم.

.تفسير الآية رقم (8):

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} خطاب لبني إسرائيل ومعناه ترجية لهم بالرحمة إن تابوا بعد الرحمة الثانية {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} خطاب لبني إسرائيل: أي إن عدتم إلى الفساد عدنا إلى عقابكم، وقد عادوا فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة. {حَصِيراً} أي سجناً وهو من الحصر، وقيل: أراد به ما يفرش ويبسط كالحصير المعروف.

.تفسير الآيات (9- 11):

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}
{يَِهْدِى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي الطريقة والحالة التي هي أقوم، وقيل: يعني لا إله إلا الله، واللفظ أعم من ذلك {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} المعنى ذم، وعتاب لما يفعله الناس عند الغضب من الدعاء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وأنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير وفي وقت التثبت، وقيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية، وقد تقدم أن الصحيح في قائلها أنه أبو جهل {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} الإنسان هنا وفي الذي قبله اسم جنس، وقيل: يعني هنا آدم وهو بعيد.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}
{فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل} فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك: مسجد الجامع أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار ومحو آية الليل على هذا كونه مظلماً. والوجه الثاني: أن يراد بآية الليل القمر، وآية النهار الشمس، ومحو آية الليل على هذا كون القمر لم يجعل له ضوء الشمس {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} يحتمل أن يريد النهار بنفسه أو الشمس، ومعنى مبصرة تبصر فيها الأشياء {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتتوصلوا بضوء النهار إلى التصرف في معايشكم {وَلِتَعْلَمُواْ} باختلاف الليل والنهار أو بمسير الشمس والقمر {عَدَدَ السنين والحساب} الأشهر والأيام {وَكُلَّ شَيْءٍ فصلناه تَفْصِيلاً} انتصب كل بفعل مضمر، والتفصيل البيان.

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
{وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} انتصب كل بفعل مضمر، والطائر هنا العمل، والمعنى أن عمله لازم له، وقيل: إن طائره ما قدر عليه، وله من خير وشر، والمعنى على هذا؛ أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء، وإنما عبر عن ذلك بالطائر، لأن العرب كانت عادتها التيمن والتشاءم بالطير، وقوله في عنقه أي: هو كالقلادة أو الغل لا ينفك عنه {كتابا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} يعني صحيفة أعماله بالحسنات والسيئات {اقرأ كتابك} تقديره يقال له: إقرأ {حَسِيباً} أي محاسباً أو من الحساب بمعنى العدد.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} معناه حيث وقع لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، والوزر في اللغة الثقل والحمل، ويراد به هنا الذنوب، ومعنى تزر تحمل وزر أخرى: أي وزر نفس أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} قيل: إن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم، وقيل: هو عام في الدنيا والآخرة، وأن الله لا يعذب قوماً في الآخرة إلا وقد أرسل إليهم رسولاً فكفروا به وعصوه، ويدل على هذا قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى} [تبارك: 8-9] ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات، واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع، لا من مجرد العقل.

.تفسير الآيات (16- 17):

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} في تأويل أمرنا هنا ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون في الكلام حذف تقديره: أمرنا مترفيها بالخير والطاعة فعصوا وفسقوا، والثاني: أن يكون أمرنا عبارة عن القضاء عليهم بالفسق أي قضينا عليهم ففسقوا، والثالث: أن يكون أمرنا بمعنى كثرنا واختاره أبو علي الفارسي، وأما على قراءة آمرنا بمدُّ الهمزة فهو بمعنى كثرنا، وأما على قراءة أمّرنا بتشديد الميم، فهو من الإمارة أي جعلناهم أمراء ففسقوا، والمترف: الغني المنعّم في الدنيا {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي القضاء الذي قضاه الله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون} القرن مائة سنة، وقيل أربعون.

.تفسير الآيات (18- 22):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
{مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} الآية: في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة، على أن لفظها أعم من ذلك، والمعنى أنهم يعجل الله لهم حظاً من الدنيا بقيدين: أحدهما تقييد المقدار المعجل بمشيئة الله، والآخر: تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله، ولمن نريد بدل من له، وهو بدل بعض من كل {مَّدْحُوراً} أي مبعداً أو مهاناً {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي عمل لها عملها {كُلاًّ نُّمِدُّ} انتصب كلاً بنمد وهو من المدد ومعناه: نزيدهم من عطائنا {هؤلاء وهؤلاء} بدل من كلاً، والإشارة إلى الفريقين المتقدمين {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} يعني رزق الدنيا، وقيل: من الطاعات لمن أراد الآخرة، ومن المعاصي لمن اراد الدنيا، والأول أظهر {مَحْظُوراً} أي ممنوعا {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} يعني في رزق الدنيا {لاَّ تَجْعَل} خطاب لواحد، والمراد به جميع الخلق، لأن المخاطب غير معين {مَذْمُوماً} أي يذمه الله وخيار عباده {مَّخْذُولاً} أي غير منصور.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
{وقضى رَبُّكَ} أي حكم وألزم وأوجب، أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود: {ووصى ربك} {أَلاَّ تعبدوا} أن مفسرة أو مصدرية على تقدير: بأن لا تعبدوا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ} هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف، والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حاله الكبر؛ لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما، لضعفهما ومعنى عندك: أي في بيتك وتحت كنفك {أُفٍّ} حيث وقعت اسم فعل، معناها قول مكروه، يقال عند الضجر ونحوه، وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان، فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين، فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك، ويجوز في أفّ الكسر والفتح والضم، وهي حركات بناء، وأما تنوينها فهو للتنكير {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} من الانتهار وهو الإغلاظ في القول {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما، فهو كقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال: الجناح الذليل، ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما {لِلأَوَّابِينَ} قيل: معناه الصالحين، وقيل: المسبّحين، وهو مشتق من الأية بمعنى الرجوع، فحقيقته الراجعين إلى الله.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}
{وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم، وقيل: وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي قرابته حقهم من بيت المال، والأول أرجح {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} الآية: معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم، فقل لهما كلاماً حسناً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه، حياء منه، فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول: رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك، والميسور مشتق من اليسر {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} مفعول من أجله، يحتمل أن يتعلق بقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} والمعنى على هذا: أنه يعرض عنهم انتظاراً لرزق يأتيه، فيعطيه إياهم، فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور، والرحمة على هذا هي: الأجر والثواب.